- قال علي بن أبي طالب t: سألت كثيرًا من كبراء فارس عن أحمد ملوكهم عندهم؟ قال: أزدشير فضل السبق، غير أن أحمدهم سيرة أنوشروان.
قال: فأي أخلاقه كان أغلب عليه؟ قال: الحلم والأناة. فقال علي t: هما توأمان أنتجتهما علوُّ الهمَّة[1].
- كان سَلْم بن نوفل سيِّد بني كنانة قد ضربه رجلٌ من قومه بسيفه، فأُخِذَ، فأُتِي به إليه فقال له: ما الذي فعلت، أما خشيت انتقامي؟ قال: لا. قال: فَلِمَ؟
قال: ما سوَّدْنَاك إلاَّ أن تكظم الغيظ وتعفو عن الجاني، وتحلُم على الجاهل، وتحتمل المكروه في النفس والمال. فخلَّى سبيله. فقال قائلهم: تُسَوَّدُ أَقْوَامٌ وَلَيْسُوا بِسَادَةٍ[2].
- قال الأحنف بن قيس: تعلَّمْتُ الحِلْمَ من قيس بن عاصم المنقري، إني لجالسٌ معه في فناء بيته وهو يحدِّثُنا إذ جاءت جماعة يحملون قتيلًا، ومعهم رجل مأسور، فقيل له: هذا ابنك قتله أخوك.
فوالله ما قطع حديثه، ولا حلَّ حبوته[3] حتى فرغ من منطقته[4].
- رُوِيَ أن رجلًا أسرع في شتم بعض الأدباء وهو ساكت، فحمى له بعض المارِّين في الطريق، وقال له: يرحمك الله ألا أنتصر لك؟ قال: لا. قال: ولِمَ؟ قال: لأني وجدتُ الحِلْمَ أَنْصَرَ لي من الرجال، وهل حاميت[5] لي إلاَّ لحِلْمِي؟
- وقال عبد الله بن عمر: إن رجلًا ممن كان قبلكم استضاف قومًا فأضافوه، ولهم كلبة تنبح، فقالت: والله لا أنبح ضيف أهلي الليلة.
فعوى جراؤها في بطنها، فبلغ ذلك نبيًّا لهم أو قَيْلًا [6] من أَقْيَالهم، فقال: مَثَلُ هَذَا مَثَلِ أُمَّةٍ تكون بعدكم، تظهر سفهاؤها على حُلَمَائِها[7].
- مَرَّ عبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاص بناس من بني جمح، فنالوا منه، فبلغه ذلك، فمرَّ بهم وهم جلوس.
فقال: يا بني جمح، قد بلغني شتمكم إيَّايَ، وانتهاككم ما حَرَّم الله، وقديمًا شتم اللئام الكرام فأبغضوهم، وايم الله ما يمنعني منكم إلاَّ شِعْرٌ عرض لي، فذلك الذي حجزني عنكم. فقال رجل منهم: وما الشعر الذي نهاكم عن شتمنا؟ فقال[8]:
فوالله ما عطفا عليكم تركتكم *** ولكنني أكرمتُ نفسي عن الجهلِ
نأوت بها عنكم وقلتُ لعاذلي *** على الحِلْم دعني قد تداركني عقلي
وجللني شيب القذال[9] ومن يشب *** يكن قَمِنًا من أن يضيق عن العذلِ
وقلتُ لعلَّ القوم أخطأ رأيهم *** فقالوا وخالُوا الْوَعْثَ كالمنهج السهل
فمهلًا أريحوا الحلم بيني وبينكم *** بني جمح لا تشربوا أكدر الضَّحْل[10].
- عن شيخ من طيِّئ، قال: قال معاوية: يا معشر طيِّئ مَنْ سيِّدكم؟ قالوا: خريم بن أوس: من احتمل شتمنا، وأعطى سائلنا، وحلم عن جاهلنا، واغتفر، فضلَّ ضربْنَا إيَّاه بعصِيِّنَا[11].
- قال عبد الله بن البوَّاب: كان المأمون يحلم حتى يغيظنا في بعض الأوقات، جلس يستاك على دجلة من وراء ستر، ونحن قيامٌ بين يديه، فمرَّ ملاَّحٌ وهو يقول:
أتظنُّون أنَّ هذا المأمون ينبل في عيني وقد قَتَل أخاه. قال: فوالله ما زاد على أن تبسَّم، وقال لنا: ما الحيلة عندكم حتى أنبل في عين هذا الرجل الجليل[12].
- جاءت جاريةٌ لمنصور بن مِهْرَان بمَرَقَةٍ فهَرَاقَتْها عليه، فلمَّا أحسَّ بحَرِّها نظر إليها، فقالت: يا معلم الخير، اذكر قول الله. قال: وما هو? قالت: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}. قال: كظمتُ. قالت: واذكر {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}. قال: قد عفوتُ. قالت: واذكر {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134]. قال: اذهبي فأنت حُرَّة[13].
--------------------------------------------------------------------------------
[1] أبو بكر الطرشوشي: سراج الملوك، الباب الثامن والعشرون: الحلم 1 66.
[2] شطر من الطويل، وقال ابن دريد في الاشتقاق: يقول فيه الشاعر الجعفري.
[3] الحِبْوة والحُبْوة: الثوبُ الذي يُحْتَبَى به، والاحتباء: أَن يَضُمَّ الإِنسانُ رجليه إِلى بطنه بثوب يجمعهما به مع ظهره ويَشُدُّه عليها. انظر: ابن منظور: اللسان 14 160.
[4] أبو بكر الطرشوشي: سراج الملوك، الباب الثامن والعشرون: الحلم.
[5] حاميت: أي غضبت. انظر: ابن منظور: اللسان 14 197.
[6] القَيْل: المَلِك، وجمعه أَقْيال وقُيُول. انظر: ابن منظور: اللسان 11 572.
[7] أبو بكر الطرشوشي: سراج الملوك، باب الحلم.
[8] الأبيات من الطويل.
[9] القذال: جماع مؤخر الرأس وأول العنق.
[10] ابن أبي الدنيا: الحلم ص44.
[11] ابن أبي الدنيا: الحلم ص40.
[12] ابن الجوزي: أخبار الظراف والمتماجنين ص88، 89.
[13] أبو حيان التوحيدي: الإمتاع والمؤانسة 1 261.
المصدر: موقع قصة الإسلام